الموقع المتقدِّم للدراما والموسيقى العربية

من بعد هالعمر.

.جاد غصن يعيش مع زياد الرحباني

ويدفعنا للعيش معه لنصف قرن .

 

==============
كتب: مالك حلاوي.

==============

لسهرتين متتاليين (كان من المفترض أنها سهرة واحدة، لولا الأسباب التقنية التي فرضت نفسها) كنَّا أمام وثائقي على شاشة “تلفزيون الجديد” من توقيع مبدِع في التقارير الإخبارية التلفزيونية هو جاد غصن، الذي قدّم نفسه من خلال هذا الوثائقي كبطاقة اعتماد لمرحلة جديدة من مسيرته في ورشات العمل والتدريب التي بدأتها مؤسسة الجديد وأعطته صفة مدرِّب للتقارير الإبداعية، دون أن نعلم هل جاء ذلك بتخطيط مُسبق أو مجرد مصادفة، لكن في الحالتين استطاع هذا المُبِدع  الذي اسمه جاد غصن أن يأخذنا في رحلة عمر كاملة غطت أهم وأبرز محطات زياد الرحباني في عالم الموسيقى والمسرح وصناعة الكلمة كما صناعة الموقف: الموقف الفني، الوطني، السياسي وباختصار الإنساني.
“من بعد هالعمر”… هو العنوان.. والمُلفت أنه “رحلة عمر” لفنان ما زال يجاهد وينتج ويضيف إلى مراحل عمره إبداعًا فوق إبداع، لذا من المُبكر القول إننا سنكتفي بهذا القدر من المحطات الإبداعية في حياة العنصر الرحباني الأكثر إثارة للجدل في قائمة العائلة الرحبانية: من الأخوين عاصي ومنصور (الأب والعم) إلى ثالثهم (العم الثاني)، الذي لا يقل شأنًا وهو الياس الرحباني، حتى بقية القائمة من الجيل الثاني أولاد العمَّين منصور والياس ..
وكلامي عن أنه من المبكر اختصار رحلة عمر زياد الرحباني ليس انتقادًا للعنوان هذا، أو انتقاصًا من قدرة “جاد” مع “الجديد” على صناعة عنوانٍ آخر كان من الممكن أن يجذب محبي زياد الرحباني الذي ينتظرون منه مع كل إطلالة ولوجًا جديدًا إلى عالمه المليء بالمفاجآت، كما التناقضات والأسرار، وصولًا إلى الطرافة وتحديدًا الطرافة الوقحة والتي لا يمكن لجمهور الشاشة الصغيرة أن يتقبَّلها إلى على لسان زياد الرحباني حصرًا..

جاد غصن ورغم العنوان الكبير هذا لم يدّعِ اختصار رحلة زياد الرحباني بهذا الوثائقي، بالرغم من نجاحه السلس في تقديم الإحساس لنا بأنه كان رفيق درب زياد، وكان حاملًا لـ”كاميرته” ويقوم بتصويره منذ طفولته وطفولة تجاربه الكتابية واللحنيَّة، التي كانت بعكسه تجاربَ أكثرَ نضوجًا باعتبارها خلاصة مخزون بيتٍ هو بمثابة الحضانة والمدرسة والأكاديمية التي أشبعت زياد فنًا (رحبانيًّا) تبناه وقلَّده قبل أن يخرج من عباءته، مع خروجه من منزل الوالد عاصي والأم فيروز إلى المنزل الأكبر، وهو الوطن الذي لم يتبناه حلمًا رحبانيًّا، بل جعله ومن خلال أول أعماله الثائرة على الأهل (مسرحية شي فاشل) وطنًا مختلفًا.. وطنًا من “أناس حقيقين” لديهم من الهواجس والمعاناة ما جعلهم متناقضين متضادين يشبهوننا وزلا علاقة لهم بوطن العرزال والجرة المكسورة في “ضيعة” تُلقي تبعية كسر هذه الجرة على “الغريب”… وهي فكرة (كما قال زياد في وثائقي جاد) أورثها الرحابنة لكل من حاول مجاراتهم في المسرح الغنائي أو الفولكلوري ولدى الجميع لم تغب الجرة كما لم يغب الغريب!!…
طبعًا هذا كلام سمعنا عنه سابقًا من زياد، ولكن مع وثائقي جاد غصن فهمناه وتفهَّمناه أكثر، تمامًا كما فهمنا خروجه من “موسيقى الرحابنة” إلى الموسيقى بمداها الرحب مستفيدة من الشرق ومن الغرب، لا بل من الغرب المستفيد هو أكثر من أنغامنا الشرقية، ونحن آخر من يعلم..
جاد نجح أيضًا ولأول مرة بتقديم بانوراما واسعة لزياد بدأها من “الخربشة” على أوراقٍ وقعت في يد الوالد (الكبير عاصي) الذي أكتشف منها أنه أنجب موهبة ستجاريه فنًّا وعبقرية في أكثر من مجال: من المسرح الفولكلوري الغنائي إلى المسرح الموسيقي عمومًا، فالتأليف الموسيقي في أكثر من مجال (موسيقى تصويرية لأفلام ومسلسلات وغيرها) وصولًا إلى تميُّز هذا الإبن بالعمل السياسي (بدل العمل الوطني الشعاراتي والكلاشيهاتي وما شابه).. فكان العمل السياسي المكتوب والمسموع إذاعيًّا لزياد أيام الحرب هو المفصل الذي وضعه كنقيض للعائلة الملتزمة بالوسطية، إن لم نقل الحيادية، في أكثر من مفترق خطر من المفترقات التي مرَّ بها الوطن، وهنا وأنا أستذكر العمل الإذاعي مأخذي الوحيد على جاد غصن تغييب اسم المخرج جان شمعون رفيق المرحلة الاستثنائية هذه ورفيق الحلقات الإذاعية الشهيرة “بعدنا طيبين قولوا الله”.

وفي هذه البانوراما استعرضَ جاد غصن قديم زياد وجديده، فشاهدنا قديمًا متجدِّدًا اختلط بالجديد ضمن سياق خلطة مسحت الفوارق الزمنية، وكأننا أمام رحلة بدأت ناضجة وأكملت أكثر نضوجًا، ولكن.. وهنا اسمحوا لي أن أقول رأيي الخاص في أسباب “فشل” آخر تجارب زياد المسرحية (بخصوص الكرامة… ولولا فسحة الأمل) بعيدًا عن تحليلات مقالة “زياد الرحباني ورفيق الحريري التي وردت في الوثائقي” فجمهور زياد المسرحي كان جمهورًا لمسرحٍ ـ إذاعي إذا جاز التعبير، ابتدعه زياد، حتى بات من يسمع “كاسيت بالنسبة لبكرة شو أو نزل السرور أو غيرها” لا يخسر شيئًا  بل الغالبية ممن شاهدوا المسرحيتين لم يكونوا أوفر حظًا ممن اكتفوا بسماع الكاسيت وهم الغالبية طبعًا، لكن عندما انتقل زياد من الإذاعية إلى المشهدية في المسرح، مع مسرحيتيه الأخيرتين، لم يفهمه جمهوره بالرغم من كل الجهد الذي بذله “مشهديًّا” ليعطينا (بالنسبة لي وحسب رأيي المتواضع) أولى أعماله المسرحية المتكاملة، والتي تنتمي إلى المسرح والتي لن يفهم شيئًا منها “جمهوره الإذاعي” فكانت هذه هي “الضربة” التي خلقت غربة بين زياد وجمهوره، وكان عليه المتابعة ربما يرتقي بهذا الجمهور “من إلى”  متابعًا نضوجه المتصاعد إلى ما لا نهاية بحثًا عن المزيد المزيد مما تختزنه ذاكرة هذا العبقري الذي ورث دماغين أضافهما لدماغه فبتنا أمام دماغ ثلاثي الأبعاد ما زال يعدنا بالكثير. وهذا ما نحسُّه كما نتمناه، وهذه رسالة جاد غصن “من بعد هالعمر”، ولما بعد هذا العمر، لما بعد الـ2019، حيث نرى استمراية عاصي ومنصور كما سيستمر زياد كفكرة لا تندثر مع الزمن وما قوله أنه بصدد التحضير لفيلم سينمائي إلا تأكيدًا لما أقوله وقبل أن أختتم أتوجه للجندي المجهول-المعلوم طارق تميم بالتحية كما أتوجه لجاد غصن بتحية أخرى لتواضعه بعدم إضافة اسمه كمخرج لهذا العمل إلى جانب الإعداد والتقديم… وإن يكن التقديم هو الآخر لنص لا يمكن أن يمر مرور الكرام بنظري باعتبار النص وحده يمكن أن يكون وثيقة مستقلة تؤرخ لزمن زياد الرحباني كما عشناه في نصف قرن وأكثر .

Print Friendly, PDF & Email
Share