في ذكرى التحرير- كفركلا كانت سبَّاقة.
وهذه إعادة لمقالة سابقة لتبقى للأجيال.
ولتبقى: “كفركلا بوابة التحرير”.
من آرشيف أمواج.
“كفركلا” القرية الحدودية التي غناها خالد الهبر وكتب عنها ولها الكثيرون، يستغرب أهلُها غيابها عن ذاكرة الناس لتحل محلها تسمية “بوابة فاطمة”، والتي لم تكفِ خطوة إلغاء التسمية لها رسميًّا واستبدالها باسم “بوابة التحرير” لتحل هذا الالتباس الدائم بين شهرة البلدة وشهرة “البوابة”…
وإذا كانت تسمية “البوابة” هي مجرد تسمية إسرائيلية أراد منها العدو تكريس مقولته التي لطالما حاول ترويجها خلال احتلاله للشريط الحدودي عن “إنسانيته وحضاريته”، وذلك من خلال عبارة لطالما استعملها العملاء، وكادت عامة الجنوب تتبناها، لولا أن جرى دحضها بألف مثال ومثال، وهي مقولة “إسرائيل إذا ما بتإذيها ما بتإذيك”، مستغلة حادثة الولادة العسيرة لامرأة اسمها فاطمة تم إدخالها إلى فلسطين المحتلة للعلاج والولادة، ولتحمل هذه البوابة منذ ذلك التاريخ اسم “بوابة فاطمة” فإليكم ما يؤكد وباليقين ودون أي التباس كم تستحق كفركلا اسمها الجديد-القديم، الذي نرى أن من واجب “بلدية كفركلا” اعتماده، ونعني به اسم: “كفركلا بوابة التحرير”…!
فقبل رواية “عملية تحرير كفركلا”، التي قلبت الموازين وغيَّرت توقيت الاندحار الإسرائيلي يومي الثلاثاء- الأربعاء 24 و25 أيار العام 2000 وعلى لسان أحد أبطال العملية، نذكِّر بأن تاريخ كفركلا مع المقاومة بدأ باكرًا، وقبل نشوء المقاومة الإسلامية، ولنعد بالذاكرة إلى ما بعد الثامنة والأربعين، حين كانت تتم عمليات نزع أعمدة الحديد التي كان العدو يقوم بوضعها لربط الشريط الشائك عليها، وكان البعض ومن أهل السلطة يومها عندنا يروِّجون أن العمليات هذه هي عمليات سرقة لبيع الحديد، وهذا ليس بغريب عن الدولة اللبنانية يومها، تمامًا كما جرى اعتبار البطلين صادق حمزة وأدهم خنجر “من رجال العصابات واللصوص”… أهالي كفركلا إذن
رفضوا الشريط الشائك بين لبنان وفلسطين، والتي كانت مصدر رزق الكثير من أهالي الجنوب عمومًا وكفركلا بوجه خاص، والذين كانوا، ولبُعدهم عن العاصمة -بيروت وللإهمال المعروف لأوضاعهم من دولتهم، كانت بدائل العمل عندهم هي في فلسطين ومدنها الأقرب لهم، وكان كلُّ من “حسين.ح” والذي وللمصادفة توفي بعد أيام من التحرير ربما لأن فرحته بالتحرير كانت أكبر من أن يحتملها قلبه، ومعه “رامز. ض” كانا من أبرز المطلوبين للعدو في تلك المرحلة بعدما قتلا أحد رجال “الهجانة” الصهاينة وانتزعا مسدسه، وهو ما يزال بين مقتنياتهما حتى تاريخه..
لكن بعيدًا عن هذا التاريخ القديم، الكل يذكر مقاومة كفركلا لإسرائيل والعمليتين الشهيرتين لدخول البلدة بهدف اعتقال أحد أبرز المقاومين وهو الشهيد أبوعلي- عبد الأمير محمد حلاوي، والتي نجح فيها العدو في العملية الأخيرة بقتله خلال اندحاره عن البلدة وانسحابه بتغطية مدفعية، ما أدَّى إلى إصابته بشظية لأنه كان في مقدمة المقاتلين الذين واجهوا العدو بأبسط الأسلحة يومها، ومن هنا كتب عاصم الجندي روايته “فارس كفركلا” تخليدًا لذكرى أبو علي حلاوي..
ذكرت هذين التاريخين لأوكِّد عراقة كفركلا مع المقاومة، والتي اكتملت مع العملية الأخيرة والتي كنت أحد الشهود عليها، ولكن تعالوا نعرف كافة تفاصيلها من أحد أبطالها..
يقول المقاوم “الراوي” من بلدة كفركلا:
– البداية كانت يوم الإثنين في 23 أيار عام 2000 وكنا وقتها متجمهرين في بلدة الطيبة التي يفصل بينها وبين كفركلا، حسب الطريق الرئيسة، بلدة العديسة، بينما بالإمكان بلوغها مباشرة عبر التلال المشتركة بين البلدتين (كفركلا الطيبة) … على الطريق الأسفلتية التقليدية يومها وضع العملاء تلة رملية كبرى كساتر على الطريق الرئيس بين الطيبة والعديسة، ولأن القرار بالإندحار النهائي لم يكن قد صدر لدى العدو، فقد كان هناك موقع إسرائيلي مواجه من داخل الحدود لحماية هذا الساتر، وبمجرد أن قامت إحدى الجرافات بمحاولة إزالته أُطلقت عليها قذيفة دبابة واستُشهد يومها سائق الجرافة ( سليمان عبد الرسول رمال) فعرفنا ان العبور من خلال هذه الطريق ليس متاحاً، أقله في الوقت الحاضر، حينها قرّر “الحاج أبو حسن” وهو المسؤول عن مجموعتنا، أنه سيصعد ليلاً عبر التلال للوصول إلى كفركلا وحده ومن هناك سيتواصل معنا بعدما كان على تواصل هاتفي مع بعض الأقارب داخل البلدة…
“طبعًا قمنا برفض الفكرة- يقول الراوي، ويتابع:
- لقد سألناه هل يتم ذلك بالتنسيق مع القيادة فقال: “حتى الآن لا ولكن هناك قرار بدخول
البلدات للمدنيين، وأنا سوف استبق الأمر وأصل إلى البلدة”، وحين لمسنا إصراره وعناده قررنا أن نرافقه أنا و”رفيق.ح” وخليل.ح”، وبالفعل انطلقنا مع بداية العتمة باتجاه البلدة ليلة الاثنين- الثلاثاء، ولم تكن الرحلة شاقة لأننا لطالما قطعنا هذه التلال ذهابًا وإيابًا ونعرف كافة تفاصيلها ونحن مغمضي الأعين…. وما أن وصلنا إلى “الضيعة” حتى رأينا الشخص الذي كان الحاج على تواصل معه بانتظارنا ومعه أربع رشاشات، قدمها لنا فحملناها وتقدمنا إلى مقدمة البلدة، في وقت كان فيه العملاء قد تلقوا تحذيرًا عبر الهاتف المحمول من الحاج (الذي أوحى لهم بأنه ما يزال في بلدة الطيبة) أن ساعة الصفر قد بدأت وأن عليهم الانسحاب من البلدة فورًا، فطلب يومها المسؤول الأمني العميل أحمد عبد الجليل شيت (رحل بعد التحرير بسنوات داخل الأرض المحتلة) إمهاله مع مجموعة من العملاء المقرَّبين منه حتى ظهيرة الغد لجمع أمتعته، فرفض الحاج ذلك وأبلغه من خلال الوسيط أن ساعتين فقط تفصله عن وصول المقاومة إلى البلدة وإلقاء القبض عليه وعلى من معه..
في تلك الفترة يذكر الناس أن حالة إرباكٍ وتدافع للناس الهاربين حصلت على ما يسمى “بوابة فاطمة” كما حصل إطلاق رصاص من قبل العدو على سيارات العملاء التي كانت تتوجه نحو البوابة للعبور إلى فلسطين المحتلة، ما أدَّى إلى مقتل زوجة أحد العملاء من بلدة القليعة.. وسألت محاوري:
* كيف ومتى ولماذا حصل ذلك؟
فردَّ المقاوم -الراوي بالقول:
- إن وصولنا مع انكشاف النهار إلى البلدة خلق حالة إرباك داخل كفركلا أولًا، وسرعان ما جرى تناقل الخبر بأن “الحاج ابو حسن” ومجموعة معه قد وصلت فعلاً إلى البلدة، وكان مجرد اسم “الحاج…” يثير الرعب في قلوب العملاء، وهم الذين لطالما كلفوا أناسًا بالاستقصاء وإحضار معلومات عنه، خصوصًا المسؤول الأمني الذي كان يعتبره عدوًا شخصيًّا له، وقد سبق أن جرى اعتقاله وكانت له حكايات وحكايات داخل المعتقل، وبعد انقضاء مهلة الساعتين صعد أحد أبناء البلدة المقيمين فيها “أ.ع” إلى المسجد ليذيع الإنذار التالي:“أيها العملاء سلموا أنفسكم لقد وصلت المقاومة إلى وسط البلدة..”
ويكمل الراوي رده على سؤالي بالقول:
- هذا الإنذار وحده كان كافيًّا لخلق حالة الإرباك التي تتحدث عنها، فاندفع كل العملاء باتجاه الشريط، حيث كانت قوافل السيارات القادمة من القليعة بوجه خاص، ومن برج الملوك وغيرها هي التي تنتظر الدخول عبر البوابة بعد التدقيق بالأوراق الثبوتية لهم ولسياراتهم…. ومع اندفاع “عملاء كفركلا” وهم بالمناسبة ليسوا بقلَّة، سادت حالة الرعب لدى الآخرين فتركوا سياراتهم وحقائبهم وكل ممتلكاتهم واقتحموا البوابة سيرًا على الأقدام، ما دفع بالعدو لإطلاق الرصاص عليهم…
في هذه المرحلة كلنا نذكر شريط الصور للسيارات التي بقيت على طول الخط الفاصل بين كفركلا و”المطلة”-فلسطين المحتلة، هذه السيارات التي تمت قرصنتها من قبل “شبيحة البلدة” الذين لا تخلو بلدة منهم، قبل أن تصل المقاومة فعليًّا وتبدأ بملاحقتهم وكشف مخابئ هذه السيارات ومصادرة ما تيسر منها، كما يذكر الجميع الملابس التي كانت منتشرة على طول الشريط الشائك، وهي الملابس التي كان الأهالي وبينهم هؤلاء “الشبيحة” يفتحون الحقائب المرمية ويأخذون منها ما خف وزنه وغلا ثمنه، ويرمون بالملابس على الشريط، وهناك روايات وروايات عن حقائب مجوهرات ودولارات وما شابه أغنت الكثيرين يومها، فكانت حالة ارتزاق جديدة لكنها سريعة وخاطفة هذه المرة، انسجامًا مع مقولة “مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد”…
أما في الوقائع الميدانية فيختتم الراوي بالقول:
- هنا تؤكد كل التقديرات أن العدو لم يكن بنيته سحب كل عملائه من لبنان بل الإبقاء على مجموعات في العديد من قرى الشريط الحدودي القديم “حدود دويلة سعد حداد” من بينها عملاء البلدة، وعلى هذا الأساس تمَّ الإبقاء على الكثير من الآليات والأسلحة، خصوصاً في محيط معبر كفرتبنيت، حيث من المقرَّر أن تتم مواجهة بين هؤلاء العملاء والمقاومة خلال دخولها، لإعطاء طابع الاقتتال الداخلي لعملية التحرير، أي بمعنى أن إسرائيل قامت بانسحابها تطبيقًا للقرار الدولي 425 (لا اندحارها بفعل عمليات المقاومة) فتجري مواجهات وعمليات انتقامية ومجازر يترحم بعدها الناس على الاحتلال، وتتم المطالبة بتدخل دولي وقوات دولية وما شابه.. لكن ما جرى في كفركلا ومن قبل أربعة أشخاص فقط لا غير، وما أثاروه من رعب أدَّى إلى تسريع عملية تقهقر العملاء كل العملاء الكبار إلى الداخل، وتسليم البقية أنفسهم طوعًا في محيط منزل ومحطة “حسين.ح”، الذي أسلفنا بحكايته في سياق الموضوع، والذي لم يصدِّق يومها رؤية أبطال المقاومة أمام عينيه، وبينهم أحد أبنائه، قبيل ساعات من الاندحار الفعلي، وهو كان في طليعة المستقبلين لهم.. وفي مستودعاته جرى جمع الأسلحة والقذائف الصاروخية التي تركها العدو في كفركلا وحدها، والتي استلمتها المقاومة بالأطنان، ما يشير حتمًا إلى نية العدو بإبقاء التوتر داخل كفركلا وباقي القرى التي جُمعت منها أطنانٌ أخرى من الأسلحة والعتاد، عدا الدبابات وناقلات الجند والملالات والآليات الأخرى..
هذ الكلام أكده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله خلال الاحتفال الذي أقامه في بنت جبيل يوم 25 أيار والذي عُرف بخطاب “بيت العنكبوت” مسميًّا هذه الحالة بالانتصار الثاني للمقاومة حيث قال سماحته:
- نحن اليوم في بنت جبيل نحتفل بنصرين، وليس بنصرٍ واحد: النصر الأول تحرير جزء كبير من أرضنا، وجزءٍ كبيرٍ من معتقلي سجون الاحتلال، وإلحاق الهزيمة بالعدو بفضل الجهاد والمقاومة والصمود والتضحيات. …. والنصر الثاني: هو كيفية فرض الانسحاب على العدو، أنتم فرضتم عليه التوقيت والتكتيك والكيفية، وأنتم أثبتم بعد الانسحاب أنكم شعب لائق بالنصر. لقد كان الإسرائيلي يخطط ليكون انسحابه بعد عدة أسابيع، ويسلّم تدريجًا مواقعه لميليشيا لحد، ويحتفظ ببعض المواقع كقلعة الشقيف والدبشة وبعض المواقع الحدودية…. هذا رفضتموه أنتم وكان الاقتحام الأول لبلدة القنطرة ودير سريان والقصير والطيبة (لا أدري لماذا نسي سماحته كفركلا وواقعتها التي يُفترض أنه يعرفها تمامًا) وبدأت البلدات تتحرر والمواقع تسقط وميليشيا لحد تنهار، الواحدة تلو الأخرى. وفي ليلة واحدة أصبح الشريط الحدودي نصفين وبدأ الانهيار الشامل واجتمعت حكومة العدو المصغرة ووجدت نفسها أمام خيارين: إما ان تعود الى احتلال المواقع لتواجه المقاومة والمزيد من الخسائر، وإما أن تسرِّع بانسحابها، واختارت الثاني وخرجت على عجل، وتركت لكم كل هذه الدبابات والملالات والمواقع والمدافع لتؤكد أن ما جرى في جنوب لبنان هو هزيمة إسرائيلية كاملة.
إلى هنا ينتهي كلام السيد ويبقى أن نقول أنه وإزاء هذه الأحداث، وبعد توثيق وقائع العملية الكبرى هذه “عملية تحرير كفركلا”، نعود لنؤكد على بلديتها ضرورة إطلاق اسم “كفركلا بوابة التحرير” على البلدة ووضع لافتة بهذا العنوان عند الحدود، وإزالة اسم “بوابة فاطمة” من تاريخنا وجغرافيتنا، لا من ذاكرتنا، لأن الذاكرة ستحتفظ بها كمحاولة ساقطة لتبييض صفحة العدو وتاريخه المليء بالإرهاب وبالمجازر، لا بالمواقف الحضارية والإنسانية كما يدّعي….