النجاح له عدة أوجه.
الزند، مال الدنيا وتغيير جو.
=============
كتب: مالك حلاوي.
=============
أذكر أن إحدى شركات الإنتاج تعثَّرت في تصوير فيلم سينمائي بعد شراء القصة وتكليف سيناريست بتحويلها إلى فيلم، وبالفعل أُنجز النص ودُفعت مصاريفه، لكن وبسبب كون الأحداث تجري في ستينيات القرن الماضي بين بيروت وإيطاليا وهي عن قصة واقعية جرت أحداثها في لبنان، توقف المشروع وما يزال النص قابعًا في أدراج تلك الشركة العريقة في الإنتاج الدرامي يومها (قبل سنوات).
هذه القضية التي لا يمتلك وقائعها إلا ثلاثة أشخاص: كاتب القصة الراحل ومدير شركة الإنتاج في بيروت وكاتب هذه السطور، تذكرتها بالأمس وأنا أشاهد الحلقة 28 من مسلسل “الزند” وأعيش أحداثًا جرت بين بيروت ودمشق، وأشاهد مدنًا بلقطات بانورامية كبرى حافلة بالكومبارس وبالعربات وبأحد القطارات (وبالمناسبة تبدأ أحداث الفيلم المشار إليه من خلال لقطات لعجلات قطار يصل بين أوروبا والشرق الأوسط) هذه المشاهد المتقنة والمحبوكة وفيها مجاميع “على مد عينك والنظر” جعلتني أشعر بالأسف لما كنا عليه في عز محاولاتنا لقيامة إنتاج سينمائي في بيروت، ما أجهض هذه القيامة لأسباب واهية… أما اليوم فأنا أتلمس مع شركة “سيدرز للإنتاج” وبريادة صادق الصبَّاح ما يمكن لضخامة الإنتاج أن تقدمه على صعيد الدراما، حفاظًا على المصداقية (قبل الإبهار)، ولن أضيف جديدًا إلى الكثير الكثير الذي كُتب حول هذا الموضوع (ضخامة الإنتاج والحرص على تقديم كل ما يلزم لهذا الإنتاج) من قبل هذه الشركة من جهة وبالعموم، وحول مسلسل “الزند” تحديدًا من جهة أخرى، بكل عناصره، من الكاتب عمر أبو سعدة فالمخرج سامر البرقاوي والنجم المتألق تيم حسن والذي تقع على عاتقه مهمة لا تقلًّ شانًا في كل عمل جديد من حيث ابتداع الشخصية ذات الخصوصية العالية والتي تكاد تكون وحدها من ضمن أدوات تمتين النجاح في جذب الجمهور إلى الشخصية ومن خلالها لأحداث العمل، ولكن ما أريد التوقف عنده اليوم أن ضخامة الإنتاج ليست هي الشرط الأساس للنجاح، بل على العكس، قد تتحوَّل أحيانًا إلى مجرد استعراض في غير مكانه، والأمثلة كثيرة..
فمن أعمال الشركة نفسها، وبعيدًا عن “الزند” وضخامة إنتاجه، أشاهد حاليًّا مسلسل “تغيير جو” وهنا ينطبق الإسم على واقع هذه “النقلة”، وفي هذا المسلسل تأتي البساطة، إن في الإنتاج أو في تتابع الأحداث، لتكون هي أحد أهم عناصر نجاح العمل…
فمسلسل “تغيير جو” مع قصته الصغيرة وحبكته البسيطة، لكن بأحداثه المثيرة بين مصر ولبنان، لا يحتاج لأكثر من تجسيد هذه الأحداث على بساطتها عبر مواقع تصوير مثالية في زمننا الحالي (بين مواقع وأحياء فقيرة وأخرى راقية وسياحية في البلدين) ويبقى الأهم بين عناصر النجاح السير في ركاب الأحداث بشخصيات أُحسن اختيارها من قبل فريق العمل: الكاتبان منى الشيمي ومجدي أمين، المخرجة مريم أبو عوف وبالطبع بالتعاون مع جهة الإنتاج، حيث شاهدنا عودة أسماء كبيرة إلى جانب نجوم جُدد عدا الوجوه الشابة التي تظهر للمرة الأولى، والجميع جاء في مكانه المناسب لتجسيد العمل بأبهى صورة: إياد نصار وصالح بكري يتنافسان على قلب منَّة شلبي كلٌّ بأدواته الخاصة من حيث تركيبة الشخصية وبرقي وشياكة اعتدناها من هذين النجمين العربيين… بينما تتنافس ميرفت أمين وشيرين على ما يمكن أن نعتبره حقيقة أن الكبار (في السن وفي الخبرة) يمكن لهم القيام ببطولة دراما عربية كما نشاهد عالميًّا.. واهم ما يلفت بين عناصر نجاح “تغيير جو” انه وبعيدًا عن الحبكة الأساس في مسألة بيع “العقار الخاص” وضياع الأوراق والحقيبة، هناك طرافة الحوارات التي تدور بين الأجيال المتعددة، مع طرافة المواقف التي بدونها ما كان للعمل أن ينجح في استقطاب الجمهور ضمن موسم بهذه السخونة، خصوصًا وان العمل بدأ في النصف الثاني من شهر رمضان.
وبين هذا العمل وذاك نصل إلى سر نجاح عمل مثل “مال الدنيا” والنقلة من سوريا ومصر ولبنان إلى المغرب العربي، الحقيقة هنا إن مشاهدة مسلسل مغربي ليس من ضمن قائمة أولوياتنا في متابعة الدراما العربية، فقد كنَّا (وكي لا أُعمِّم أقول: كنت) أكتفي بمشاهدة فيلم سينمائي روائي أو وثائقي من “تونس أو الجزائر أو المغرب”، وكانت اللهجة دائمًا هي العائق، واليوم مع مسلسل “مال الدنيا” لا أُنكر الاستعانة بخاصيَّة الـ sous titrage لمتابعة الحوار، لكن ما أدهشني أنني كنت أتسمَّر أمام الشاشة لعدة حلقات باليوم الواحد (لأنني بدأت متأخرًا بمتابعة العمل على منصة شاهد) والأهم بتت أحاول، لا بل أنجح، بتجاهل الترجمة مع التركيز على الحوار بالمغربية الممزوجة ببعض الفرنسية…
صحيح أن قضية تبييض الأموال هي قضية ليست بجديدة في أعمالنا العربية، لكن الأهم في هذا العمل: سيناريو وحوار: رشيد حمان ونجيب التادلي وعادل ياشفين ومصطفى قيمي، إخراج أحمد أكساس، بطولة: محسن مالزي، ناصر اقباب، رشيد الوالي، هدى مجد، أنس بسبوسي، توفيق حازب وغيرهم، هي تفاصيل العلاقات الاجتماعية إن داخل الأسر من جهة، ومدى التفاوت في هذه العلاقات من جهة أخرى، بين عائلة متزمّتة وأخرى منفتحة وعصرية، أو بين رجال الأعمال حيث التنافس غير المشروع والضرب من تحت الحزام وعلى الطريقة المغربية هذه المرة…. هذه الأحداث جديدها أننا بالفعل كنا نشاهد خصوصية عربية مغاربية، إن على صعيد ما أسلفت من داخل البيوت، أو صراع الخير والشر في المؤسسات والذي اعتدناه بطرق وتركيبات أخرى في أعمالنا الدرامية.
في هذه العجالة السريعة أتوقف لأقول إن النجاح في كل شيء وهنا على صعيد الدراما تحديدًا، ليس له معادلة واحدة، ولا يمكن أن يكون بوجه واحد بل لدينا العديد من الأوجه لهذا النجاح، ولن أستعرض بعد من أمثلة، لكن في رمضان 2023 استطاعت شركة الصبًاح تنويع أوجه هذا النجاح وهنا مجرد مثال، ولو حاولنا استعراض عناصر نجاح بقية أعمال الموسم (النار بالنار، الأجهر، المدّاح، سلمات أبو البنات، وأخيرًا) وقد كان لي وقفات خاصة عند بعض هذه الأعمال، لكنَّا أمام أمثلة عديدة أخرى، باعتبار أن لكل عمل من هذه الأعمال ظروف وأسباب ومقومات نجاحها الخاصة، لكن ما يجمعها وللمرة الأولى برأيي أنها جاءت من واقع مجتمعاتنا وليست هجينة مستقاة من حبكات وقصص غربية كما كان يجري عادة، هروبًا من الخوض في بعض محلياتنا الحسَّاسة، وفي هذه النقطة تحديدًا أعود لأنوِّه بواقع مسلسل “النار بالنار” وكانت لي وقفة تفصيلية حول هذا الأمر…!