الموقع المتقدِّم للدراما والموسيقى العربية

مسرحيّة إله المجزرة

مســرح:

4

أجادت العزف على أوتار مجتمعنا

وعرّت لحظات الكذب في نفوسنا!

كتب وليد باريش:

01

1… يقول المخرج المسرحي كارلوس شاهين عن عمله المسرحي الذي يُعرض على مسرح “مونو”، والمأخوذ عن مسرحية Le Dieu du carnage أو “إله المذبحة” للفرنسية Yasmina Reza، والتي قدمها بعنوان مختصر “مجزرة”:

–          إن “مجزرة” هي برهة وجيزة من حياة أربعة أشخاص، ساعة وربع الساعة، يجتمعون فيها ويتحدّثون، في البداية تكون كلماتهم مدروسة، ثم تصبح نابية أكثر فأكثر، كاشفة الأكاذيب والشعور بالوحدة والتبرّم من الجميع، وهذه الكلمات هي التي تجعل منهم بشراً، ولأنني رغبت في التحدث إلى جمهور أوسع من الدائرة الصغيرة من الناطقين بالفرنسيّة في بيروت طلبت من ياسمينا ريزا حقوق ترجمة المسرحيّة إلى العربية ولبننتها، وانغمست رندا الأسمر في الترجمة من الفرنسيّة إلى العربية بكل حسّها المسرحي وفهمها للنّص، واضعة نصب عينيّها جعل الحالة واضحة ومفهومة لأكثر عدد ممكن، وكانت تحاول جاهدة إيجاد مواءمة لبنانية لهذا السيّاق الباريسي الصرف، وكان لديّ ولدى رندا قلق دائم لإيصال المعنى الذي تشعّب بين احترامنا للنص واحترامنا للجمهور اللّبنانيّ.

ويتابع:5

–                     وذات مساء خلال إحدى البروفات، لم يفهم الممثلون المتعبون والضائعون قليلاً كيف يمكن أن تكون أسماؤهم هي آنيت (كارول الحاج)، وفيرونيكا (برناديت حديب) آلان (فادي أبي سمرا)، وميشال (رودريغ سليمان)، وأطفالهم برونو وفرديناند، قالوا لي بأنّه لا معنى لذلك، فهذه الأسماء غير شائعة في لبنان، أو أن هذه الأحداث يمكن أن تجري فقط لدى البورجوازيّة المتكلمة باللّغة الفرنسيّة، وهي على الأغلب مسيحيّة، قالوا لي عليك أن تغيّر الأسماء أو ستتغيّر طبيعة العمل، ولكن أبقيّت شخصيّات ياسمينا ريزا تحمل تلك الأسماء التي أطلقتها عليها، هذا هو أيضاً جمال المسرح وغموضه، ولكن الممثلين على حق أيضاً فالأمانة هي أيضاً خيانة”!

فالنجاح الباهر الذي حققّته مسرحيّة “مجزرة” دفعت المخرج البولّندي رومان بولنسكي إلى تحويلها لفيلم سينمائيّ طويل عام 2011 حمل اسم  carnage أو “مجزرة” من تمثيل جودي فوستر وكيت وينسلت، أما “مجزرة” اللّبنانيّة فتتناول قصّة ثنائيّ مؤلّف من المحامي ألآن وزوجته المستشارة أنيت وتاجر الجملة والطناجر وقطع الغيار والأدوات المنزليّة ميشال وزوجته المثقّفة فيرونيك المهتمة بمأساة دارفور، يلتقي الثنائيّ في منزل تاجر الجملة بشكل مختصر لحل مسألة ولديهما برونو وفريناند اللّذين عنفا بعضهما في المدرسة وقيام الأخير ابن المحامي بضرب ابن التاجر بالعصا، مّا أدّى إلى التسبب بكسر أسنانه، فجأة يتحوّل الهدوء والسكون والاستقبال الحار و”البرستيج”إلى توتر مشترك ومع قيام الرجلين بتحدّي بعضهما البعض وكشف المستور في العلاقات العائلية المتوّترة والمفكّكة بين الذات والآخرين وعدم الوصول إلى صيغة تفاهم تسقط الحلول وينتهي العمل!

2

ممّا لا شك فيه أن مسرحيّة “مجزرة” أظهرت براعة فائقة في الإخراج الذي وقّعه كارلوس شاهين، وهو طبيب الأسنان الذي لم يمارس تخصّصه لينصرف إلى المسرح في باريس وليتّم اختياره لحضور “المدرسة الوطنيّة العليا للفنون الدرامية والمسرح الوطني لستراسبورغ” لمدة ثلاث سنوات قبل أن يعود إلى لبنان عام 2002 بعد غيبة طويلة بدأت عام 1985 حيث كتب وأخرج ولعب البطولة 11في فيلمه القصير “طريق الشمال” بمشاركة غسّان سلهب، الذي فاز بالعديد من الجوائز في مهرجانات دولية، وهذه البراعة في تحريك الأبطال أضافت إليها رندة الأسمر وبرناديت وكارول وفادي ورودريغ بناء المعادلة الصعبة والمستحيلة فبدت، وعلى مدى الساعة وربع الساعة، كقصيدة موزونة ومتماسكة مستخدمين فنوناً ومعرفة وخبرة فأبرزوا من خلالهم التناقض بين ضرورة التواصل الذي يجمع بين البشر وبين حتميّة وجود المسافة من عادات وتقاليد وموروثات التي تضمن قرارة الفرد واختلافه عن الآخرين!

2كارلوس والمجموعة استطاعوا من خلال “مجزرة” أن يختصروا عالماً بأكمله بكل مجتمعاته وطبقاته وطوائفه ومذاهبه التي تعيش على الممالقة والنفاق الاجتماعي فيما بينها على المسرح، وفي هذا المكان الضيّق لأن في هذه العلبة تكبر وتنكشف المساحات المُتبادلة في التربية وفي العلاقات الاجتماعية والحميمة وتأخذ أبعاداً أخرى بفضل لعبة الكذب المستور و”البرستيج” التي استخدمها النّص ودُمى المسرح تحت الأضواء الكاشفة تاركين الكلاسيكيّة التقليديّة حيث عدد الفصول والموسيقى والديكورات واستخدام الإضاءة مكتفين بأصواتهم وانفعالاتهم ورعشات أجسادهم ومخاوفهم وهزائمهم، كل هذه الأشياء كانت على مسرح “مونو” تعمل كآلة ضخمة لغسل هروبهم من واقعهم ولإعادة تحريك وصياغة أحلامهم بمفاهيم جديدة بعيداً عن غموضهم اللاّ ملموس.

وما يهم القول هنا  أن “مجزرة” كشفت مدى خضوع الحالات الإنسانيّة في التعاطي مع الأفكار، وفي لعبة مخيفة تضعنا مباشرة أمام أفراد يواجهون استعبادات مأسويّة ويحاولون مواجهتها بمغامرات عدمية وعبثيّة تدفعهم للبحث عن ذاتهم الداخلية والمصدومة بالعجز واليأس نتيجة علاقتها مع نظام اجتماعي فاسد يفتك بكل القيّم ويشل إرادتها، وفي “مجزرة” ياسمينا ريزا يواصل الكل مغامراتهم المسرحية ويدخلون إلى عالم رافض وعصيّ على الإحاطة ولمّ الشمل المفترض، يختارون الطريق الأصعب ويعيشون الخراب الروحي والجسدي رغم محاولاتهم الفاشلة للخروج من هذه الحالات الشاذة، يطلقون من مسرحهم الصور الأقوى من لحظات جنوننا المؤقتة والمخزونة في أفكارنا تربيتنا وأن حاولنا إخفائها تحت ذرائع كاذبة بحجّة الحضارة والمدنيّة !

 في هذا العمل يختار كارلوس البساطة في العرض والتوازن بين الممثل اللّبنانيّ والنّص الفرنسي، فالأول ممّا لا شك فيه هو سيّد المكان والخشبة ويمتلك كامل الحريّة لإبراز مهاراته وتأكيد حضوره دون أن يُقلّل هذا الحضور الطاغي من أبعاد ومفهوم وكثافة النص وتفاصيله الكثيرة، من هنا نهض العرض على رؤية شاملة ومحاولات تغيير اجتماعيّة دون السقوط في لعبة الشعارات والمباشرة!3

وفي هذه المسرحية أيضاً جاء العمل مترابطاً وممسوكاً جعل المشاهد يتحرّك في قلب المشهد الواحد، وداخل صالونه ومطبخه وحمّامه الافتراضي برؤيّة بصريّة آسرة مشاركاً إلى أبعد الحدود اللّغة الجسديّة لأبطال العمل الأربعة التي تحمل حرارة المعنى والمعايشة والإقناع!

باختصار “مجزرة” وبكامل عناصرها قدّموا أدواراً صعبة وجديدة ومعقّدة بمهارة وثقة وسطوة على الفضاء المسرحي فعرفوا كيف يطرحون علينا وقع روحهم وأجادوا الغرف من دواخلنا ليمسكوا بشفافيّة اللّحظات الإنسانيّة ويعرّوها حتى العظم!!!

Print Friendly, PDF & Email
Share